ماذا تفعل 'جاد' بالمدمنين في الأمن العام الأردني؟

[?????? ?????] [?????? ?????]

ماذا تفعل "جاد" بالمدمنين في الأمن العام الأردني؟

By : Yara Nahle يارا نحلة

الإدمان هو، بحسب تعريف "الجمعية الأميركية لطب الإدمان"، "مرض مزمن يصيب النشاطات الدماغية كالمكافأة والتحفيز والذاكرة.."، ويتطلّب علاجاً على أصعدة مختلفة، جسدية، نفسية واجتماعية. وتشير المراجع الطبية إلى إستحالة الإقلاع عن الإدمان، لاسيّما إدمان الموّاد المخدرة، من دون الخضوع لمنهجية علاجية كاملة. "السجن"، إذاً، لا يعد،ّ بأي شكلٍ من الأشكال، حلاً لمشكلة الإدمان. وبالرغم من أن بعض الدول لا زالت تعتمد السجن كعقاب لمدمني المخدّرات، إلا أن المستغرّب فعلاً هو لجوء إحدى منظمات المجتمع المدني إلى "السجن" كأسلوب علاجي. في ما يلي، شهادة لمدمن مخدّرات سابق، كان ضحية لإحدى أشهر جمعيات مكافحة المخدرات في لبنان.

تجربة كميل

بعد مرور سنوات طويلة على معاناتي من مشكلة الإدمان على "الهيروين"، وصلت إلى حائط مسدود، وأدركت حينها أنني بحاجة للحصول على مساعدة، فلجأت إلى أهلي الذين إصطحبوني إلى جمعية "جاد". كان ذلك منذ ما يقارب الست سنوات، وكنت حينها في الحادية والثلاثين من عمري. إلتقينا برئيس الجمعية، جوزيف حواط، الذي أخبرنا عن "مركز جديد مهمّ جداً" في الأردن للعلاج من الإدمان. وأخذ يمتدح المركز، وأوحى لنا بأنه، على الأقلّ، مكان لائق لإستقبال المدمنين ومعالجتهم، حتى أننا حضّرنا "المايو" قبل الرحلة. كانت هذه المرة الوحيدة التي رأيته فيها قبل سفري، تلاها تواصل عبر التلفون.

سافرت إلى الأردن، وتوجّهت إلى العنوان المحدد، أي المكان الذي يفترض به أن يكون "مركزاً صحياً" ليتبيّن لي أنه مركز للأمن العام الأردني، تحت الأرض، يُستخدم كنظارة يتمّ فيها توقيف مرتكبي الجنايات المتعلّقة بالإتجار وتعاطي المخدرات. فلقد نسي رئيس الجمعية أن يذكر لنا التفصيل الأهم، وهو أنه سيتمّ احتجازنا في مركز أمني. لقد كنّا برفقة مجرمين. كنّا نرى رجال الأمن يحملون أسلحتهم ويستعدّون للقيام بمداهمات، كما كنّا نسمع صراخ الذين يتمّ تعذيبهم. كانت الأيام الأولى هي الأصعب على الإطلاق، إذ كنّا نعاني من أعراض إنسحاب المخدرات من أجسادنا، التي تسبّب أوجاعاً تستدعي علاجاً بالأدوية، غير أن أحداً لم يُقدّم لنا أي دواء ولا أي شكل آخر من العلاج، بإستثناء بعض المهدئات الخفيفة جداً. حتى أنني كنت قد أخذت معي بعض الأدوية التي توصَف لهذه الحالة بالذات، لكنّ الجمعية صادرتها. لم يكن الطبيب يأتي إلا في حالة وجود مشكلة مستعصية، وحتى حينها، كنّا ننتظر بضعة أيام لقدومه. كنا محاطين بعناصر الأمن، عوضاً عن الأطباء. وكان يُقال لنا ببساطة "دبروا حالكن".

قضيت في المركز مدّة شهر ونصف الشهر مع ستة لبنانيين آخرين "أكلوا الضرب مثلي". كنّا ممنوعين خلالها من الخروج سوى مرّة واحدة كلّ أسبوعين للحصول على بعض الحاجيات. لم يكن هناك حديقة أو مكتبة أو أي وسيلة للترفيه، وإقتصرت نشاطاتنا على المشي في ملعب، وحضور محاضرات لرجل دين مسلم. كنت قد أحضرت معي بعض الكتب، أحدها للروائي سلمان رشدي، وجده معي أحد الضبّاط فجنّ جنونه وصادره. وكانوا يعطوننا ثلاث سجائر في اليوم فحسب، وقد تمحورت أيامنا حولها. كنا نصرخ ليلاً نهاراً بأننا نريد العودة إلى لبنان، لكننا تُركنا هناك رغماً عن إرادتنا. كنا في سجن فعلي. كان يُقال لنا إنه أحد أهم المراكز في الشرق الأوسط، وكان "يعطي نتائج". لكن فور عودتنا إلى لبنان، أسرعنا إلى شراء المخدّرات، إذ لم نكن قد تعالجنا من إدمانها قط. وعلى الرغم من أننا قصدنا مركز العلاج طوعياً، إلا أننا عدنا منه وقد استنفزت طاقاتنا وإرادتنا، فلم نرغب حتى بملاحقة الجمعية قانونياً.

ضبط المدمنين

للتأكّد من صحّة هذه المعطيات، اتصلت "المدن" بحواط، وكانت المفاجأة أنه لم ينف أياً من هذه التفاصيل، بإستثناء تفصيل واحد هو عدم علم هؤلاء المدمنين بأن المركز الذي يتمّ إرسالهم إليه هو مركز للأمن العام الأردني. ويبرّر حواط تعاونه مع الأمن العام الأردني، بالقول إن "العسكر وحدهم قادرون على ضبط الوضع، وهو أكثر مراكز إعادة التأهيل نجاحاً". بصرف النظر عن تصنيف هذا المركز بـ"مركز إعادة تأهيل"، هناك تساؤلات حول ما يعتبره حواط "نجاحاً"، كونه لم يتابع حتى حالة المدمنين بعد عودتهم من الأردن، بحسب ما أكّده كميل لـ"المدن"، قائلاً "ما عاد سمعنا عنو شي".

كما يدّعي حواط تقديم هذا المركز علاجاً نفسياً ودوائياً للمدمنين. غير أن كميل أكّد على أن "طريقة تعامل الجمعية مع حالتنا قديمة جداً، إذ لا تعترف بالدواء ولا بالدعم النفسي". من جهةٍ أخرى، نلمس لدى حواط، الذي كرّس جمعيته من أجل مكافحة الإدمان، نظرة سلبية تجاه المدمنين أنفسهم، لا المخدّرات بشكل عام. وخير دليلٍ على ذلك، حين قال، عندما قمنا بمواجهته بأقوال كميل، إنه "لا يمكنك تصديق سوى 1% مما يقوله المدمنون". وعندما عرضنا عليه تجربة كميل كدليل على فشل هذا الأسلوب العلاجي، تذرّع بحجةّ أن "معظم المدمنين يعودون إلى المخدرات، بمعزل عن العلاج المعتمد"، رغم أن كميل تخلّص، لاحقاً، من الإدمان بعد خضوعه لعلاج تحت إشراف جمعية "سكون".

ويرى الطبيب والمعالج النفسي العيادي شوقي عازوري، أنّ صعوبات كثيرة تدخل في العلاج النفسي للمدمن، كون المخدّرات تقف حاجزاً بينه وبين نفسه، لذلك لا يستغرب وجود هذا النوع من العلاج الذي يعتمد في السجون، ومعاملة المدمن على أنه مجرم، إذ ينتج شعوراً بالذنب قد يساعده في تخطّي الإدمان، إلا أنه شخصياً لا يعتمد هذا الأسلوب ولا يتبنّاه. من جهته، يعتبر المعالج النفسي العيادي محمد التلّ أن "فكرة السجن والتجريم وإعتماد العسكر قد تكون لها عواقب خطيرة"، كما يضيف أن "العلاج النفسي يمكنه أن يحلّ مكان المادّة المخدّرة أحياناً، إلى حين شفاء المدمن". في المحصّلة لا يشجّع المعالجون النفسيون هذه الحلول، خصوصاً في حال وضعهم في مكانٍ لا اختصاصيين فيه، كالمعالجين والأطباء.

الوضع القانوني

وتطرح هذه القضية إشكالية حول قانونية سلوك "جاد"، كونها تضع مدمنين في عهدة جهاز أمني لدولة أجنبية، من دون التنسيق مع الدولة اللبنانية، بحسب تأكيد حواط. وفي محاولة لفهم الحيثيات القانونية للموضوع، تواصلت "المدن" مع المحامي وعضو "المفكرة القانونية" كريم نمور، الذي أكّد أن هذه العمليّة يتخلّلها عدد من المخالفات القانونية، فـ"القانون اللبناني أقرّ بمبدأ العلاج كبديل عن الملاحقة القانونية، كما أكّد على طوعية إمتثال المدمن أمام لجنة مكافحة المخدرات، وطوعية إلتحاقه بمركز لإعادة التأهيل ومكوثه فيه، بالإضافة إلى تشريع القانون الحصول على الدواء من أجل العلاج". لكن في حالة كميل، فقد تمّ تركه في المركز قصراً، كما مُنِع من الحصول على الدواء، أي تمّ سجنه، "ما يعتبر جرماً، إذ لا يمكن توقيف مدمن إلا بقرار قضائي، وهذا لا ينطبق على هذه الحالة، وهذا يعني أن الجمعية لا تطبق ما هو مذكور في قانون المخدّرات اللبناني".

في هذا العصر، وفي ظلّ تحكّم العلم بمفاصل حياتنا، يبقى السؤال: هل لا يزال مقبولاً أن نضع مدمنين في عهدة العسكر لتأمين علاجهم؟ وهل يدلّ خطاب جمعية "جاد" على أنها فعلاً ملمّة بأوضاع المدمنين وحاجاتهم، وهل هي فعلاً مطلعة على آخر أساليب العلاج؟ نطرح كل هذه التساؤلات في ظلّ تصدّر  "جاد" لمجال العمل على مكافحة المخدّرات وعلاج مدمنيها، وبروزها في الأوساط الإعلامية.

[عن جريدة  "المدن" الإلكترونية ]

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]